ما أزال مستيقظة رغم أن الوقت متأخر. النعاس قد أثقل أجفاني، و لكن لسبب أو
لآخر تظل عيناي مفتوحتان تعاندان النوم. في اللحظة التي أنوي فيها اخيراً على
إغلاق عيني و الاستسلام للسبات اللذيذ أفاجأ بنور ساطع يوسع حدقتيّ، و في حركة رد
فعل لاإرادية أقعد على سريري. الظلمة تحلّ بالمكان مجدّداً. هل كان ذلك برقاً دون
رعد؟ في منتصف الصيف؟
أنهض و أتوجه إلى النافذة المفتوحة
حافية القدمين و أزيح الستارة إلى الجانب. هل أنا نائمة و أحلم الآن؟ أفرك عينيّ
بقبضتي يديّ و أعيد النظر في حالة يمتزج فيها فزع و فضول و إحساس غريب بالولوج إلى
عالم سرياليّ.
لم يكن برقاً و إنما بُراق. هل أضاع الكائن المسكين طريقه بين عوالم
الأساطير ووقع على فسحتي الخارجية المتواضعة؟
بما أنني قد ولدت في دولة إسلامية و ترعرعت في عائلة مسلمة فأعلم طبعاً ما
هو البُراق. أول مرة سمعت قصة الإسراء و المعراج كنت ما زلت طفلة. إذا لم تخنّي
الذاكرة، وهي على فكرة غالباً ما تخونني، فقد كانت هذه الرحلة النبوية السماوية
ضمن منهاج الصف الرابع الابتدائي.
كانت حصة ديانة. رسمت المعلمة حصاناً مجنّحا على السبورة الخضراء و كتبت
على ظهر الحصان: "الرسول محمد صلى الله عليه و سلم"، ثم التفتت إلينا و
قالت: لا يجوز رسم النبي صلى الله عليه و سلم. سألها أحدنا: لماذا لا يجوز رسم النبي يا آنسة؟ أجابت: لأن
ديننا لا يجيزرسم النبي صلى الله عليه و سلم، و أضافت: عندما تذكرون الرسول الكريم
صلى الله عليه و سلم عليكم دائماً أن تضيفوا "صلى الله عليه و سلم"، أفهمتم؟
هززنا رؤوسنا بالايجاب، فقالت مبتسمة: - بارك الله فيكم.
بعد هذا التمهيد حدّثتنا عن
المعجزة.
-النبي صلى الله عليه و سلم أسرى
على ظهر البراق في ليلة القدر و جبريل طائر إلى جانبه، و من هو جبريل؟ إنه الملاك
الذي نزل على الرسول صلى الله عليه و سلم بالوحي السماوي. حطّ الجمع في بيت المقدس
في فلسطين الحبيبة. تفكّروا بهذا يا أطفال، أشرف الناس قد وطأ بقدميه الطاهرة أرض
المقدس! الفتح، الفتح إن شاء الله! قالت المعلمة هذا و هي تلوّح بيدها بحماس.
–
قولوا آمين يا أطفال!
رددنا بصوت واحد: - آمييييين!
أردفت الآنسة: بعد جولة قصيرة على
الأرض المقدسة حلّق البراق حاملاً النبي صلى الله عليه و سلم و عرج به إلى السماء
الأعلى عند سدرة المنتهى، و هذا أقصى حد يمكن الوصول إليه في السماء. هناك تم
استقباله من الأنبياء عبر تاريخ البشرية و على رأسهم إبراهيم و موسى و عيسى.
في البداية أعجبتني الحكاية عن الحصان المجنّح، و لكن عندما ابتدأت الآنسة
تتحدث عن رسوم الاستقبال الرسمي، صلاة الجماعة التي كان النبي إمامها إلخ، أصبح
السرد شبيهاً بنشرة الأخبار التي يستمع إليها أبي كل مساء. طببت رأسي على الطاولة
و بدأت أحبك مشهد معركة مصيرية أنا فيها البطلة أركب فيها صحناً طائراً يواجه صحون
العدو من الكوكب المجاور، و ضربات سلاح الليزر تملأ الفضاء حولي. المشهد المثير لم
يطل للأسف. ضربة عصا خشبية رفيعة على ظهري كانت وكيلة بإرجاعي إلى الواقع، إلى
غرفة الصف في مدرسة ابتدائية في دمشق. نهضت بسرعة.
– أعيدي ما قلت من لحظات. ماذا جرى
في السماء؟ نظرة ألآنسة كانت ثاقبة، فخفضت بصري و رحت أتفحص بقعة على الأرض قريبة
من حذائي بصمت.
– امشِ إلى الزاوية يا بنت! تقفين
بقية الحصة عند سطل الزبالة.
لم يكن بحيلتي إلا الطاعة ففعلت. و
من النقطة التي اُجبرت على التواجد فيها لربع الساعة المتبقية من الحصة كان من
المستحيل إطلاق عنان الخيال و متابعة حلم اليقظة المثير. لذلك اضطررت إلى الإنصات
إلى وقائع تاريخية عن رحلة الرسول صلى الله عليه و سلم.
بعد صلاة الجماعة ودّع النبي محمد صلى الله عليه و سلم سالفيه من الأنبياء
و عاد على ظهر البراق في الليلة نفسها إلى جوار زوجته في بيته في مكّا في شبه
الجزيرة العربية. عندما استيقظ الزوجان أخبر الرسول زوجته هند بنت أبي طالب عن
الرحلة، فسألته بتوجس إن كان ينوي أن يخبر أحداً بحلمه العجيب، فردّ بأن الرحلة
كانت بالجسد و الروح معاً و لم تكن حلماً، ثم أضاف: - والله لأحدّثهموه
خرج الرسول فنادت هند جاريتها الحبشية و قالت: ويحك اتبعي رسول الله حتى
تسمعي ما يقول للناس، و ما يقولون له. وعندما خرجت الجارية ضربت هند على رأسها
بيديها و هسمت: هذا الرجل سيفضحنا في القبيلة، يا ساتر استر!
ردود الفعل كانت كما خشيت هند. قبيلة قريش لم تصدق الحكاية و شكّكت بحدوثها لدرجة أن البعض صار يصفّر و يصفّق مستهزئاً. ولكن الله نصر كلمة الحقّ. لم تمر فترة قصيرة من الزمن حتى و نزلت الآية الكريمة التي أنهت أيّ مجال للشك. بالإضافة إلى ذلك فإن رواة الحديث النبوي، المرجع الثاني للعلم في الإسلام بعد القرآن الكريم، قد اتفقوا على صدق القصة. فقد روى عبد الله بن مسعود عن أبي سعيد الخدري عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه و سلم عن معاوية بن أبي سفيان عن الحسن بن أبي الحسن البصري عن ابن شهاب الزهري عن قتادة عن ابن اسحاق عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: أيقظني جبريل و خرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابّة أبيض، بين البغل و الحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه.
عندما انتهت الحصة تنفّستُ الصعداء لخلاصي، و لكن القصة علقت في ذاكرتي
بسبب سطل الزبالة. و في هذا المساء عادت إليّ الذكرة لأن براقاً لسبب أو لآخر قرّر
أن يزورني و هو الآن يقف على بعد ثلاثة أشبار منّي بين شجرة الكرز و أحواض الطماطم
و الخيار.
- ماذا تفعل أيها البراق خارج نافذتي؟
يجتاحني للحظة القلق على خضراواتي التي زرعتها كبذور صغيرة في التراب، و
ربّيتها شبراً بعد شبر، أسقيها و أتفقدها يومياً. من الأفضل أن أحذره.
- إذا ما قضمتَ أيها البغل أو الحصان أو الحمار، كائناً من كنت، قضمة واحدة
من طماطمي أو خياري، فلن يشفع لك لا جبريل ولا عزرائيل. ويحك أن تجرؤ على لمس
خضراواتي!
يردّ عليّ البراق بصهيل غاضب و نظرة حازمة فأتراجع خطوة. من الواضح أنه لم
يحط خارج نافذتي ليأكل خياراً. يصهل من جديد و هذه المرة يشير برأسه إلى السماء.
- هل سأعرج أنا أيضاً؟
نظرته معبرة. في هذه اللحظة أفهم المسألة. عندما يقف براق خارج بيتٍ و
يشير إلى السماء، فما على المرء إلا أن يصعد على ظهره دون أي جدل. ارتدي برنص الصباح
الكحلي و بقفزة سريعة أعبر إلى الجانب الآخر من النافذة. عندما تلامس قدميّ الحصو
البارد أتساءل بيني و بين نفسي إن كان من الأفضل أن أقفز لغرفتي و أنتعل شحّاطتي،
و لكنني سرعان ما أعدل عن الفكرة.
في قفزة رشيقة أصعد على ظهر البراق، فيبدأ بالرفرفة بجناحيه الطويلين
الثقيلين و يرتفع بي عن الأرض بتحليقٍ لا يمكن وصفه باخفة و الرشاقة لا من قريب و
لا من بعيد. رأسه يضرب بحائط البناء عند الطابق الثالث فيرتجّ جسده و أمسك بعنقه
بفزع.
- الله يستر.
بعد ثوانٍ يتمكن البراق من التحليق فوق بنائي و يعلو حتى تتراءى لي الأبنية
في الحارة كقطع الليغو الصغيرة.
و يتبع...