سارة العظمة راسموسن, كاتبة سورية نرويجية حرة و ناقدة اجتماعية, حائزة على إجازة
جامعية بالدراسات الثقافية و مختصة بالإسلام و الشرق الاوسط
حدث ان وقع انتباهي على فيلم "براءة
المسلمين" خلال فترة الاستراحة القصيرة بين ندوتين في مهرجان ثقافي. قررت ان
اشاهد بسرعة مقتبسات من هذا الفيلم, و كانت ثلاث دقائق وقتا كافيا بالنسبة لي
لتكوين رأي. إن هذا الإنتاج غير المحترف المكون من خليط غير متجانس من مشاهد مليئة
بالمبالغات و التقليد الساخر هو غير جدير بالاهتمام.
لكن الفيلم تلقى الكثير من الاهتمام و ادى
لثورة غضب في العالم الإسلامي. هناك تحركات و احتجاجات واسعة للدفاع عن شرف النبي
في الشرق و الغرب. في غضون ايام قليلة اصبحت الصورة على درجة عالية من التعقيد حتى
انه لم يعد بوسع أحد ان يدعي فهما تاما للوضع الحالي.
لقد ادت اعتداءات على عدة سفارات اجنبية و
عمليات انتحارية مؤخرا لوقوع العديد من الضحايا. تنعقد مظاهرات كبيرة يوميا و تتبعها
سلسلة من المقالات الإخبارية و التحليلية. إننا نرى و نسمع و نقرأ و نضيق بتساؤلات
حول ما الذي جعل فيلما رخيص الإنتاج من هذه النوعية السيئة يولد ازمة دولية. بعد
كل المحاولات الجادة لرسم حدود مقبولة بين حق الاعتقاد و حرية التعبير كان من
المفترض ان نكون اقرب كنتيجة ايجابية مما هو عليه الحال الآن. و لكننا نجد انفسنا
هنا مرة اخرى, في اضطراب و صراع و خلاف.
العامل الديني في الازمة
من الممكن البحث عن تفسيرات لموجة الاحتجاجات
الجديدة في الفوضى التي تبعت الثورات في العالم العربي و في نسبة البطالة المرتفعة
و انتشار المشاعر المعادية للولايات المتحدة في الشارع الإسلامي. من الممكن ايضا الإشارة
الى ازدياد شعبية جماعات اليمين المتطرف و تزايد الشكوك او العداء الصريح تجاه
المسلمين في الدول الغربية كدافع من دوافع الاحتجاج. لقد اشار الخبراء الى هذه
العوامل الاقتصادية و السياسية كلها. و لكن اين هو الجانب الديني في تحليل الخلاف
الذي تولد عن نقد ديني تم الرد عليه بالدفاع عن الدين؟ يبدو و كان بيئة المحللين
الفكرية في مجتمعات يعم فيها فهم ليبرالي للدين قد اوهنت ذكريات الحروب الدينية, و
يبدو ان هذا يلون تقديراتهم للوضع الراهن. مع خلفيتي في الدين و الثقافة الاسلامية
ارى ان هذه التحاليل جيدة و لكنها تعاني من النقص لأنها لا تتعامل مع جانب اساسي في
المسالة.
المتظاهرون
الغاضبون في داخل العالم الإسلامي و خارجه و الذين يضعون شرف نبي الإسلام, ليس فقط
في منزلة اعلى من حرية التعبير, بل ايضا فوق حقوق الانسان بأكملها و كل القوانين
المشرعة من البشر, تحركهم من دون شك دوافع مختلفة و يمثلون مواقف سياسية و اجتماعية
و اخلاقية متنوعة. و لكن على الرغم من اختلافاتهم في الراي و القصد فانهم يؤكدون و
يصرون على مكانة النبي في الاسلام. متسام على اي نقد. معصوم عن اي خطأ. بعيد عن اي
سؤال او هجوم.
الدين عملية تاريخية
حسب رايي فانه من الصعب صياغة الاسئلة حول
الوضع الراهن المتوتر, و من الاصعب الاجابة عليها اذا لم نأخذ الجانب الديني بعين
الاعتبار. لذلك اسمحوا لي ان اكتب بعض الكلمات عن الدين, ليس كظاهرة ثابتة غير
متغيرة, بل كعملية تاريخية. ان ما قد شكل التجربة المشتركة و التقاليد الاسلامية
هي عوامل معقدة و متشابكة. هذا يدفعني الى التفاؤل الحذر.
الغضب المشتعل في النفوس من اجل النبي يتعلق
بشكل واضح بدوغمائيات و تعاليم تم تطويرها في مرحلة من التاريخ الاسلامي بعد وقت
طويل من وفاة الرسول. الدوغما التي تعتبر القرآن رسالة خالدة غير مخلوقة, و فكرة
كمال الرسول و عصمته عن الخطأ هو زوج فلسفي تم ابتكاره في مرحلة اندلعت فيها حرب
اهلية في زمن الخليفة علي بن ابي طالب. و قد تم دمج هذه الدوغما في العقيدة
الاسلامية من قبل الخليفة المأمون في عام 827 و ذلك بعد ان استطاع احد الخصمين
المتنازعين, الجانب الاموي (و يدعون اليوم بالسنيين) اين يهمش اتباع علي (الشيعة).
و بعبارة اخرى فقد كان مسار تثبيت مركزية السلطة السياسية في الامبراطورية
الاسلامية الجديدة العهد مرتبطا بعملية تجميد و تقييد الرسالة المقدسة و القضاء
على كل التحديات الفلسفية في علم و تفسير الدين. كان هناك في ذلك الوقت مدرسة
بارزة دعيت بالمعتزلة و يعرف عن اتباعها رفضهم لهذا المذهب البعيد عن العقلانية
مما ادى لاختفائهم من الساحة الاسلامية.
و لكن ما لهذه القصة من القرن السابع و
الثامن في بلاد العرب من وظيفة في مقالة عن اقتحام السفارات و غيرها من ردود الفعل
العنيفة و الشاملة على فيلم ناقد للإسلام تم إنتاجه في الولايات المتحدة في عام
2011؟ إن لها غاية جوهرية ! تبعا لهذا المنطق فإن اي تهديد ل "قدسية"
النبي يفسَر كمهاجمة لدعامة العقيدة الرسمية. في إطار هذه النظرة الدينية المتحجرة
يعتبر كرتونا يصور النبي كإنسان عادي او يقلل من شانه هجوما على فرضيات الدين
الاساسية.
لقد فكرت كثيرا في هذه المسالة في السنوات
المنصرمة و اصبح واضحا بالنسبة لي انه لا بد من تحدي هذه الدوغما, ليس فقط لحل
النزاع الحالي بين حق التعبير في مقابل حماية الدين, و لكن لتحرير التقاليد الإسلامية
من قفص قد حصر الفكر و ادى للجمود الثقافي و الفلسفي لعدة قرون. هذا هو اكبر حاجز
ضد تطوير فلسفة دينية إصلاحية, و دخول الافكار الليبرالية للمجتمعات و الثقافة الإسلامية.
استعمال المنطق لتحرير العقيدة
إن عملية منطقية بسيطة هي كل ما يلزم لتحطيم
هذا الجدار الدوغمائي الذي يستند عليه عدد هائل من المؤلفات الكلاسيكية الاسلامية.
لكن من المعروف ان المنطق ليس منهاجا مثاليا في مواجهة الافكار المحصورة في مجال
ديني و روحي. على الرغم من ذلك ارى ان واجبي الاخلاقي يلزمني ان اواجه اهلي
المسلمين بهذا التحدي. سوف التزم بالبقاء ضمن التراث الإسلامي, و لذلك لن استند
على مصدر واحد غير إسلامي. إنني اعتقد جازمة اننا المسلمون لدينا ما نحتاجه من
المعرفة و كل اداة لازمة للتحليل في ضمن تراثنا الثقافي. كل ما علينا ان نفعله هو
ان نقرا بنظرة جديدة.
القصة
التالية موجودة في كتب التاريخ الاسلامي و هي معروفة من قبل اغلبية المسلمين.
قبل وقت قصير من معركة بدر التي وقعت في
الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية (624) و بعد ان حدد النبي للقوات مواقعهم,
سأله احد التابعين و اسمه حباب إن كان اختيار الموقع العسكري قد كُشف له من قبل
الله ام انه كان من تخطيط النبي نفسه. اجاب النبي ان الموقع كان من اختياره. عندها
قال حباب: "ايها النبي, هذا ليس بالموقع الصحيح".
بقية القصة تدل على ان النبي تبع نصيحة حباب
و امر قواته بالمسيرة الى اقرب مصدر للمياه و منع العدو من الوصول إليه. هكذا, و
نتيجة عن الخطة الجديدة, ربح المسلمون المعركة التي تعتبر نقطة تحول في حرب
الاسلام ضد القبائل الوثنية.
النبي محمد اساء التقدير و اخطأ بالاختيار في
وضع حرب خطير للغاية في مرحلة مصيرية في التاريخ الاسلامي. التوجيه السليم جاء من
فرد في الامة الاسلامية و لم يأت مباشرة من الله. ماذا ينبغي ان يخبرنا هذا عن
النبي و نشأة القرآن؟
إن كتابا سماويا يمكن نقله بدون ان يغير حرف
واحد موقعه في حالة واحدة: إذا كان الناقل شخصية مقدسة معصومة عن الخطأ. و لكن
إنسانا عاديا تم اختياره لنقل رسالة إلهية ينقل هذه الرسالة بلغة عصره و ليس بلغة ابدية.
إصلاح الدين و الفلسفة الاسلامية لا يتضمن
رمي تراثنا و تقاليدنا في البحر, بل إنه يعني إنشاء مناهج للتفكير العقلاني و
الجدلية المنطقية المثمرة. إن الإصلاح يعني رفض التقليد و التكرار الببغاوي.
علينا ان ننتهي عن اتهام العقلانيين بيننا
بالزندقة و ان ننظر إليهم كمبدعين و مجددين. عندما نحرر ديننا من قيود التاريخ
الخرساء و الدوغمائيات المؤدية للشلل تفقد الافلام السيئة و الكرتونيات البسيطة
القدرة المدمرة لخلق احوال تشابه احوال يوم القيامة.